ما حكم الاختلاط؟ وما ضوابطه؟ وهل يدل حديث «لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مُغِـيبَةٍ إلا ومعه رجلٌ أو رجلان» على جواز الاختلاط؟ وهل يجوز خلو المرأة الواحدة مع أكثر من رجل أجنبي؟ أو خلو الرجل الواحد مع أكثر من امرأة؟
الجواب : أمانة الفتوى
الاختلاط مصدر اختلط على وزن افتعل من الفعل الثلاثي خلط، وخَلَطَ الشَّيْء بِالشَّيْءِ يَخْلِطُه خَلْطًا وخَلَّطَه فاخْتَلَطَ: مَزَجَه، واخْتَلَطا، وخالطَ الشيءَ مُخالَطة وخِلاطًا: مازَجَه. انظر: “لسان العرب” لابن منظور (مادة: خ ل ط، 2/ 1229، ط. دار المعارف).
فالاختلاط هو الامتزاج والاجتماع، والاختلاط هو اجتماع الرجال والنساء غير المحارم في مكان واحد.
والاختلاط بين الرجال والنساء جائزٌ بضوابط، فإذا أخل بهذه الضوابط فيحرم، وأول هذه الضوبط عدم خلوة الرجل بالمرأة، والخلوة المحرمة هي خلوة الرجل بامرأة أجنبية عنه في مكان يأمنان فيه من اطلاع الناس عليهما، كبيت مغلق الأبواب والنوافذ؛ لما رواه أحمد في “مسنده” عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ؛ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ»، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَاكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ».
قال العلامة الكاساني الحنفي في “بدائع الصنائع” (5/ 125، ط. المكتبة العلمية) في الكلام عن حكم الخلوة: اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة “المغني” (7/ 96، ط. مكتبة القاهرة): اهـ.
وقال العلامة البهوتي في “شرح منتهى الإرادات” (3/ 7، ط. دار الفكر): اهـ.
وأما خلو الرجال بامرأة أجنبية عنهم، وخلو النساء مع رجل، فإنها لا يصدق عليها اسم الخلوة، ولكن إن كان هؤلاء الرجال ليسوا محلّ ثقة فلا يجوز الاختلاط بهم، والعكس كذلك.
وأما الحديث الذي رواه مسلم: أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه حدث: أن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس، فدخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهي تحته يومئذ، فرآهم، فكره ذلك فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: لم أر إلا خيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ بَرَّأَهَا مِنْ ذَلِكَ»، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر فقال: «لَا يَدْخُلَنَّ رَجُلٌ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا عَلَى مُغِيبَةٍ إِلَّا وَمَعَهُ رَجُلٌ أَوِ اثْنَانِ»، فإنه يدل على جواز الخلوة بالمرأة إذا كان معه رجلٌ آخر وكانا صالحين؛ لانتفاء الخلوة المحرمة حينئذٍ، ويدل أيضًا على جواز الاختلاط المقيد بقيود الشريعة الآتية بيانها:
قال أبو العباس القرطبي المالكي في “المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم” (5/ 503، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب): اهـ بتصرف.
وقال الإمام النووي في “شرح صحيح مسلم” (14/ 155، ط. المطبعة المصرية بالأزهر): اهـ.
وقال العلامة العدوي في “حاشيته” على قول أبي الحسن في “شرح الرسالة” (2/ 458، ط. دار الفكر): قال أبو الحسن: «ولا يخلو رجلٌ بامرأة» شابة «ليست بذي محرمٍ منه»؛ لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك قائلًا: «فإن الشيطان ثالثهما»، ثم قال العلامة العدوي: اهـ.
وجواز الاختلاط لكون المفسدة أبعد من الرجلين؛ لأنه يستحيي منه غالبًا، ويؤكد على هذا المعنى ابن رشد المالكي؛ قال العلامة العدوي في “حاشيته” على شرح أبي الحسن في “الرسالة” (2/ 458): اهـ.
ومما يؤكد هذا المعنى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَخَلَا بِهَا” متفق عليه، فالخلوة هنا بمعنى انفراد رجلٍ بامرأةٍ في وجود الناس بحيث لا تحتجب أشخاصهما عنهم، بل بحيث لا يسمعون كلامهما، فهذا اختلاطٌ مباح.
وعقب الإمام ابن حجر على هذا الحديث في “فتح الباري” (9/ 333، ط. دار المعرفة) بقوله: اهـ.
وقال الإمام النووي في “المجموع شرح المهذب” (7/ 86، ط. دار الفكر): اهـ.
وفي “حاشية الجمل على شرح المنهج” للعجيلي (4/ 466، ط. دار الفكر): اهـ.
وذكر ابن عابدين: أن الخلوة المحرمة بالأجنبية تنتفي بالحائل، وبوجود محرمٍ للرجل معهما، أو امرأةٍ ثقةٍ قادرة، ويظهر لي أن مرادهم بالمرأة الثقة أن تكون عجوزًا لا يجامع مثلها، مع كونها قادرةً على الدفع عنها، وعن المطلقة. فليتأمل. انظر: “رد المحتار على الدر المختار” (5/ 236، ط. إحياء التراث).
وثاني هذه الضوابط: احتشام المرأة وسترها عورتها، وعورتها جميع جسدها ما عدا الوجه والكفين؛ قال تعالى عن النساء: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ ، وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها: «يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا» وأشار إلى وجهه وكفيه.
قال الإمام الدردير في “الشرح الصغير” ومعه “حاشية الصاوي” (1/ 289، ط. دار المعارف): اهـ.
وقال الإمام الشيرازي في “المهذب” مع “المجموع” (3/ 167، ط. دار الفكر): اهـ بتصرف.
وثالثها: عدم جواز نظر الرجل بشهوة إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل كذلك؛ قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ .
قال الإمام السرخسي في “المبسوط” (10/ 152، ط. دار المعرفة): اهـ.
قال الإمام الدردير في “الشرح الكبير” مع “حاشية الدسوقي” (1/ 214): اهـ.
ورابعها: عدم العبث بملامسة الأبدان كما يحدث في بعض المناسبات؛ روى الطبراني والبيهقي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ».
وعليه: فإن روعيت الضوابط للاختلاط جاز، وإلا فإنه يحرم، وحديث المغيبة يدل على جواز الاختلاط المقيد بقيود الشريعة، ويجوز خلوُّ رجالٍ مأمونين بامرأةٍ، وخلوُّ رجلٍ بنساء؛ لعدم المفسدة غالبًا، بشرط أمن الفتنة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.