أنا أضطر إلى جمع الصلوات جمع تأخير بسبب ظروف عملي؛ حيث إنني أعمل طبيبًا وأدخل العمليات قبل صلاة الظهر ولا أخرج إلا بعد العصر، فهل يجوز لي الجمع؟ وهل يلزم أن أنوي جمع التأخير في وقت الصلاة الأولى؟ وهل إن فصلت بين الصلاتين بفاصل تبطل الصلاة؟
الجواب : الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
الناظر في الشريعة الإسلامية يجد أنَّ مبناها على التيسير ورفع الحرج عن المكلفين؛ وفي ذلك رعاية لحالهم وتحقيق لمصالحهم.
وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والقواعد الفقهية:
فمن الكتاب: قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ .
ومن السنة المطهرة: عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»، أخرجه الإمام أحمد.
ومن القواعد: قاعدة: “المشقة تجلب التيسير”، وغيرها.
وفي ذلك دليل على رفع الحرج والمشقة الزائدة عن المكلفين؛ قال العلامة الصنعاني في “فيض القدير” (3/ 203، ط. المكتبة التجارية): اهـ.
وهناك أمثلة كثيرة في الشريعة الإسلامية للتيسير ورفع الحرج عن المكلفين:
منها على سبيل المثال: تخفيف عدد الصلاة من خمسين إلى خمس فقط؛ كما جاء ذلك في حديث الإسراء والمعراج.
ومنها: جمع الصلاة الرباعية وقصرها إلى ركعتين في حالة السفر.
وقد ثبت أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مرض ولا مطر، وعندما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك قال: “أراد أن لا يحرج أمته”.
وروى الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: “أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ”.
وفي لفظ قال: “جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ”، قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: “أراد أن لا يحرج أمته”.
قال العلامة الشوكاني في “نيل الأوطار” (3/ 257، ط. دار الحديث): اهـ.
وقد ذهب إلى جواز الجمع في الحضر مطلقًا للحاجة من غير اشتراط الخوف، أو المطر، أو المرض، جماعة من الأئمة؛ منهم ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وابن شبرمة وغيرهم؛ قال العلامة ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري” (2/ 24، ط. دار المعرفة): اهـ.
ثم قال الحافظ ابن حجر في “المرجع السابق نفسه”: اهـ.
وقال العلامة ابن جزي الكلبي في “القوانين الفقهية” (1/ 57): اهـ.
وقال الإمام النووي في “المجموع” (4/ 384، ط. دار الفكر): اهـ.
وقال في “روضة الطالبين” (12/ 401، ط. المكتب الإسلامي): اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة في “المغني” (2/ 205، ط. مكتبة القاهرة): اهـ.
وقال العلامة ابن قاسم في “حاشية الروض المربع” (2/ 396): اهـ.
وقد أجاز فقهاء الحنابلة الجمع بين الصلاتين لأصحاب الأعمال الشاقة؛ كالطباخ والخباز ونحوهما؛ قال الإمام المرداوي الحنبلي في “الإنصاف” (2/ 336، ط. دار إحياء التراث): اهـ.
وقال الإمام البهوتي في “كشاف القناع” (2/ 6، ط. دار الكتب العلمية): اهـ.
ويقاس على ذلك علاج المريض فهو من الأعذار التي تبيح للطبيب الجمع بين الصلاتين؛ وذلك لأن في تركه خطرًا على حياة المريض التي جعل الشارع الحكيم المحافظة عليها من الضروريات الخمس؛ قال الإمام الآمدي في “الإحكام” (3/ 274، ط. المكتب الإسلامي): اهـ.
وعليه: فإن اضطر الطبيب إلى البقاء في غرفة العمليات واستغرق ذلك وقت الصلاة كله بسبب هذا العمل المتواصل الذي لا يمكن قطعه؛ فيجوز له أن يجمع بين الصلاتين ولا حرج عليه.
أما عن نية جمع الصلاة بسبب من أسباب الجمع: فإن جمهور الفقهاء القائلين بجواز الجمع وهم المالكية والشافعية والحنابلة يشترطون النية، كما أنهم يشترطون عدم الفصل بين الصلاتين بفاصل كبير، على خلافٍ بينهم في وقت النية.
فالذي عليه فقهاء المالكية: أنه ينوي الجمع في أول الأولى؛ قال العلامة علي بن أحمد العدوي المالكي في “حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني” (1/ 336، ط. دار الفكر): اهـ.
وعند فقهاء الشافعية قولان:
أحدهما: يلزمه أن ينوي عند ابتداء الأولى؛ لأنها نية واجبة للصلاة فلا يجوز تأخيرها عن الإحرام كنية الصلاة ونية القصر.
والثاني وهو الأصح: أن ينوي قبل الفراغ من الأولى؛ قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في “المهذب” (1/ 197، ط. دار الكتب العلمية): اهـ.
وقال فقهاء الحنابلة: يختلف باختلاف الجمع؛ فإن جمع في وقت الأولى فموضع النية عندهم عند الإحرام بالأولى، وإن جمع في وقت الثانية فموضع النية في وقت الأولى من أوله إلى أن يبقى منه قدر ما يصليها؛ قال العلامة ابن قدامة الحنبلي في “المغني” (2/ 206، ط. مكتبة القاهرة): اهـ.
أما عن الفاصل بين الصلاتين: فإن الجمهور الذين اشترطوا النية اشترطوا ألَّا يكون الفاصل كبيرًا، والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف والعادة؛ قال العلامة علي بن أحمد العدوي المالكي في “حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني” (1/ 337، ط. دار الفكر، بيروت): اهـ.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في “المهذب في فقه الإمام الشافعي” (1/ 197، ط. دار الكتب العلمية): اهـ.
وفقهاء الحنابلة يفرقون بين الجمع في وقت الأولى والثانية؛ قال العلامة ابن قدامة المقدسي الحنبلي في “المغني” (2/ 206، ط. مكتبة القاهرة): [فإن جمع في وقت الأولى اعتبرت المواصلة بينهما؛ وهو أن لا يفرق بينهما إلا تفريقًا يسيرًا. فإن أطال الفصل بينهما بطل الجمع؛ لأن معنى الجمع المتابعة أو المقارنة، ولم تكن المتابعة فلم يبقَ إلا المقارنة، فإن فرق بينهما تفريقًا كثيرًا، بطل الجمع، سواء فرق بينهما لنوم أو سهو أو شغل أو قصد أو غير ذلك؛ لأن الشرط لا يثبت المشروط بدونه، وإن كان يسيرًا لم يمنع؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف والعادة، لا حد له سوى ذلك، وقدره بعض أصحابنا بقدر الإقامة والوضوء.
والصحيح: أنه لا حد له، لأن ما لم يرد الشرع بتقديره لا سبيل إلى تقديره، والمرجع فيه إلى العرف، كالإحراز والقبض، ومتى احتاج إلى الوضوء والتيمم، فعله إذا لم يطل الفصل، وإن تكلم بكلام يسير، لم يبطل الجمع، وإن صلى بينهما السنة، بطل الجمع، لأنه فرق بينهما بصلاة فبطل الجمع، كما لو صلى بينهما غيرها. وعنه: لا يبطل؛ لأنه تفريق يسير، أشبه ما لو توضأ.
وإن جمع في وقت الثانية، جاز التفريق؛ لأنه متى صلى الأولى فالثانية في وقتها، لا تخرج بتأخيرها عن كونها مؤداة. وفيه وجه آخر، أن المتابعة مشترطة؛ لأن الجمع حقيقته ضم الشيء إلى الشيء، ولا يحصل مع التفريق. والأول أصح؛ لأن الأولى بعد وقوعها صحيحة لا تبطل بشيء يوجد بعدها، والثانية لا تقع إلا في وقتها] اهـ.
وبناءً على ذلك وفي الواقعة محل السؤال: يجوز للسائل الجمع بين الصلاة لظروف عمله، ولضرورة علاج المريض، ويجب عليه أن ينوي الجمع في وقت الأولى مع اعتبار ألَّا يكون هناك فاصل كبير بين الصلاتين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.