مكان قضاء العدة للمتوفى عنها زوجها

أين تعتد من مات عنها زوجها وليس لها مسكن زوجية؛ كالإقامة بفندق أو بانتهاء عقد الإيجار الجديد مثلًا؟ وأين تعتد في هذه الحالة؟

الجواب : أمانة الفتوى

العدة في الشرع: اسمٌ لمدة معدودة تتربص بها المرأة لتعرف براءة الرحم، وذلك يحصل بالولادة والأقراء والأشهر، واشتقاقها من العدد، وشُرعت صيانةً للأنساب وحفظًا لها من الاختلاط رعايةً لحق الزوجين والولد، والمغلب فيها التعبد، والأصل فيها الإجماع والآيات والأخبار. انظر: “النجم الوهاج” (8/ 123، ط. دار المنهاج).

والأصل في المرأة التي مات زوجها أن تمكث في بيت الزوجية؛ لقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾  ، فبموت الزوج يجب على زوجته الحداد، ومن الحداد أن تمكث الزوجة في بيت الزوجية حتى تنتهي عدتها، لكن هناك حالات لا يوجد فيها بيت زوجية، كمن كانت تسكن في بيت مستأجر وانتهى إيجاره، أو تهدم المنزل، أو كانت تسكن في فندق؛ ففي هذه الحالة يأتي السؤال: هل يجب على المرأة الإحداد أم لا؟

وقد تكلم الفقهاء السابقون في هذه المسألة على اختلاف مشاربهم، واتفق جمهورهم على وجوب مكث المتوفى عنها زوجها في البيت إجمالا، لكن اختلفوا في بعض تفاصيل المسألة؛ هل يؤخذ ثمن المسكن من التركة، أم يجب على الزوجة من مالها، أم يسقط الحكم بذهاب المحل؟

والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًاۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِۗ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾  .

قال الإمام الطبري في “جامع البيان” (5/ 79، ط. مؤسسة الرسالة):  اهـ.

وقال أيضًا في كتابه “الجامع لأحكام القرآن” (3/ 176، ط. دار الكتب العلمية):  اهـ.

وأما الدليل من السنة فهو ما ورد عن زينب بنت كعب بن عجرة رضي الله عنها: أن الفريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها -وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنه- أخبرتها أنها جاءت رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، وأن زوجها خرج في طلب أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا، حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أرجع إلى أهلي؛ فإن زوجي لم يترك لي مسكنًا يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نَعَمْ»، قالت: فانصرفتُ، حتى إذا كنتُ في الحجرة -أو في المسجد-، ناداني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -أو أمر بي فنوديتُ له-، فقال: «كَيْفَ قُلْتِ؟» قالت: فرددتُ عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، قال: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فلما كان عثمان أرسل إلي، فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به. أخرجه الإمام الترمذي وقال في “السنن” (3/ 500):  اهـ.

قال العلامة أبو عمر بن عبد البر في “التمهيد” (21/ 31، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب):  اهـ.

إذا ثبت هذا، فإنه يجب الاعتداد في المنزل الذي كانت تسكنه حال الزوجية، سواء كان مملوكًا لزوجها أو بإجارةٍ أو عارية؛ لقوله في الحديث: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ»، ولم تكن في بيتٍ يملكه زوجها.

فإن وُجِدَ ما يقتضي تحولَها عن المسكن الذي وجب عليها الإحداد فيه، جاز لها الانتقال إلى مسكن آخر تأمن فيه على نفسها ومالها؛ كأن خافت هدمًا أو عدوًا، أو بَانَ للسكن مستحقٌّ فأخرجها؛ كما لو كان عاريةً أو إجارةً انقضت مدتها، أو مُنِعَت السكنى تعديًا، أو طلب منها أكثر من أجرة المثل، أو لم تجد ما تكتري به، أو لم تجد إلا من مالها- فلها أن تنتقل؛ لأنها حال عذر، ولا يلزمها بذلك أجر المسكن، وإنما الواجب عليها فعل السكنى، لا تحصيل المسكن، وإذا تعذرت السكنى سقطت، ولها أن تسكن حيث شاءت؛ لأن الواجب سَقَطَ لعذرٍ، ولم يرد الشرع له ببدلٍ؛ فلا يجب؛ كما لو سقط الحج للعجز عنه وفوات شرط، والمعتكف إذا لم يقدر على الاعتكاف في المسجد. وهذا مذهب الحنابلة.

قال العلامة ابن قدامة في “الكافي” (3/ 207، ط. دار الكتب العلمية):  اهـ.

وإنما كان عدم وجوب السكنى في مال التركة كما هو مذهب الشافعية لما ذكرنا، ولأن الآية المذكورة ذكرت العدة ولم تذكر السكنى، ولو كانت واجبة لذكرها كما ذكر ذلك في الطلاق بقوله: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾  ، ولأنها لا تجب لها النفقة بالإجماع فلم تجب لها السكنى كما لو وطئها بشبهة. وهذا أحد قولي الشافعي واختاره المزني؛ كما في “البيان” (11/ 59).

ولأنّا لو أوجبنا السكنى في مال التركة إن لم يكن هناك سكن، فإن هذا سينقص نصيب الورثة الذي هو في الغالب مقيد بالقوانين، ولهذا فهذه المسألة يجب أن تقيّد بما يتفق وما أخذ به قانون الميراث؛ حتى لا يكون هناك تناقض بينهما.

ولو فرّعنا على مذهب الحنابلة والمرجوح من مذهب الشافعية وبَذَلَ لها الورثةُ المنزلَ لتحصين النسب وجب عليها القبول.

قال العلامة العمراني في “البيان” (11/ 61):  اهـ.

وقد عكس الأحناف المسألة وقالوا بوجوب أجرة المنزل في مال المتوفى عنها زوجها إن لم يكن سكن، وهو مذهب المالكية، لكنهم ذهبوا إلى التفرقة بين المدخول بها وغيرها. وهذا تقدم الرد عليه، ويمكن أيضًا أن يقال: إن السكن سببٌ في الوجوب، وهي ليست مطالبة بتحقيقه كنظائره.

قال الإمام السرخسي في “المبسوط” (6/ 33-34، ط. دار المعرفة):  اهـ.

وقال الشيخ عليش في “منح الجليل” (4/ 330، ط. دار الفكر):  اهـ.

ومما سبق يتبين: أن المتوفى عنها زوجها تعتدّ في مسكن الزوجية إن وُجِد، فإن لم يوجد وأوجده الورثة أو الحاكم وكان لائقًا بمثلها فعليها الاعتداد فيه، فإن لم يوجد فإنها تعتدّ حيث شاءت؛ لذهاب المحل.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

lahona
الاسم *
البريد الالكتروني
الدولة
عنوان التعليق *
نص التعليق *